الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قال أبو علي: حكى ابن السراج عمن اختار قراءة ملك كل شيء بقوله: {رب العالمين} فقراءة مالك تقرير، قال أبو علي، ولا حجة في هذا، لأن في التنزيل تقدم العام، ثم ذكر الخاص منه: {الخالق البارئ المصور} فالخالق يعم، وذكر المصور لما في ذلك من التنبيه على الصنعة ووجوه الحكمة، ومنه: {وبالآخرة هم يوقنون} بعد قوله: {الذين يؤمنون بالغيب} وإنما كرر تعظيمًا لها، وتنبيهًا على وجوب اعتقادها، والرد على الكفرة الملحدين، ومنه: {الرحمن الرحيم} ذكر الرحمن الذي هو عام، وذكر الرحيم بعده لتخصيص الرحمة بالمؤمنين في قوله: {وكان بالمؤمنين رحيمًا}. انتهى.وقال ابن عطية: وأيضًا فإن الرب يتصرف في كلام العرب بمعنى الملك، كقوله:
وغير ذلك من الشواهد، فتنعكس الحجة على من قرأ ملك.والمراد باليوم الذي أضيف إليه مالك أو ملك زمان ممتد إلى أن ينقضي الحساب ويستقر أهل الجنة فيها، وأهل النار فيها، ومتعلق المضاف إليه في الحقيقة هو الأمر، كأنه قال مالك أو ملك الأمر في يوم الدين.لكنه لما كان اليوم ظرفًا للأمر، جاز أن يتسع فيتسلط عليه الملك أو المالك، لأن الاستيلاء على الظرف استيلاء على المظروف.وفائدة تخصيص هذه الإضافة، وإن كان الله تعالى مالك الأزمنة كلها والأمكنة ومن حلها والملك فيها التنبيه على عظم هذا اليوم بما يقع فيه من الأمور العظام والأهوال الجسام من قيامهم فيه لله تعالى والاستشفاع لتعجيل الحساب والفصل بين المحسن والمسيء واستقرارهما فيما وعدهما الله تعالى به، أو على أنه يوم يرجع فيه إلى الله جميع ما ملكه لعباده وخوّلهم فيه ويزول فيه ملك كل مالك قال تعالى: {وكلهم آتيه يوم القيامة فردًا} {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة} قال ابن السراج: إن معنى: {مالك يوم الدين} إنه يملك مجيئه ووقوعه، فالإضافة إلى اليوم على قوله إضافة إلى المفعول به على الحقيقة، وليس طرفًا اتسع فيه، وما فسر به الدين من المعاني يصح إضافة اليوم إليه إلى معنى كل منها إلا الملة، قال ابن مسعود، وابن عباس، وقتادة، وابن جريج وغيرهم: يوم الدين يوم الجزاء على الأعمال والحساب.قال أبو علي: ويدل على ذلك: {اليوم تجزى كل نفس بما كسبت} و: {اليوم تجزون ما كنتم تعملون} وقال مجاهد: يوم الدين يوم الحساب مدينين محاسبين، وفي قوله: {مالك يوم الدين} دلالة على إثبات المعاد والحشر والحساب، ولما اتصف تعالى بالرحمة، انبسط العبد وغلب عليه الرجاء، فنبه بصفة الملك أو المالك ليكون من عمله على وجل، وأن لعمله يومًا تظهر له فيه ثمرته من خير وشر. اهـ.
وأما الأول في الأول والثاني في الثاني فليس بجزاءٍ حقيقة، وإنما سُمّي به مشاكلة، أو تسمية للشيء باسم مسبَّبِهِ كما سُميت إرادةُ القيام والقراءة باسمهما في قوله عز اسمه: {يا أيها الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا}.وقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان فاستعذ بِاللَّهِ} ولعله هو السرُّ في بناء المفاعلة من الأفعال التي تقوم أسبابُها بمفعولاتها، نحو عاقبتُ اللصَّ ونظائرِه، فإن قيام السرقة التي هي سبب للعقوبة باللص نُزّل منزلةَ قيام المسبَّبِ به، وهي العقوبة، فصار كأنها قامت بالجانبين، وصدَرَت عنهما، فَبُنيت صيغةُ المفاعلةِ الدالَّةِ على المشاركة بين اثنين. وإضافةُ اليوم إليه لأدنى ملابسةٍ كإضافة سائرِ الظروفِ الزمانية إلى ما وقع فيها من الحوادث، كيوم الأحزابِ وعامِ الفتح، وتخصيصُه من بين سائرِ ما يقع فيه من القيامة والجمعِ والحسابِ لكونه أدخلَ في الترغيب والترهيب، فإن ما ذكر من القيامة وغيرِها من مبادئ الجزاءِ ومقدِّماته، وإضافةُ {مالك} إلى اليوم من إضافة اسم الفاعل إلى الظرف، على نهج الاتساعِ المبنيّ على إجرائه مجرى المفعولِ به، مع بقاء المعنى على حاله، كقولهم: يا سارقَ الليلةِ أهلَ الدار.أي: مالِكَ أمورِ العالمين كلِّها في يومِ الدين. وخُلوُّ إضافتِه عن إفادة التعريفِ المسوّغ لوقوعه صفةً للمعرفة إنما هو إذا أُريد به الحالُ، أو الاستقبالُ، وأما عند إرادة الاستمرارِ الثبوتيّ كما هو اللائقُ بالمقام فلا ريب في كونها إضافةً حقيقية كإضافة الصفة المشبهة إلى غير معمولها في قراءة {ملك يوم الدين}.ويومُ الدين وإن لم يكن مستمرًا في جميع الأزمنة إلا أنه لتحقق وقوعِه وبقائه أبدًا أُجْرِيٍ مجرى المتحقّقِ المستمر. ويجوز أن يُراد به الماضي بهذا الاعتبار، كما تشهد به القراءةُ على صيغة الماضي، وما ذكر من إجراء الظرف مُجرى المفعولِ به إنما هو من حيث المعنى، لا من حيث الإعراب، حتى يلزمَ كونُ الإضافة لفظية، ألا ترى أنك تقول في: مالكُ عبدِه أمسِ إنه مضاف إلى المفعول به، على أنه كذلك معنىً، لا أنه منصوب محلًا، وتخصيصُه بالإضافة إما لتعظيمه وتهويله، أو لبيان تفرّدهِ تعالى بإجراء الأمر فيه، وانقطاعِ العلائق المجازية بين المُلاَّك والأمْلاَك حينئذٍ بالكلية، وإجراءُ هاتيك الصفاتِ الجليلةِ عليه سبحانه تعليل لما سبق من اختصاص الحمدِ به تعالى، المستلزمِ لاختصاص استحقاقِه به تعالى، وتمهيد لما لَحِقَ من اقتصار العبادةِ والاستعانة عليه، فإنَّ كلَّ واحدةٍ منها مفصِحة عن وجوب ثبوتِ كلِّ واحدٍ منها له تعالى، وامتناعِ ثبوتِها لما سواه.أما الأولى والرابعةُ فظاهر، لأنهما متعرِّضتان صراحةً لكونه تعالى ربًا مالكًا وما سواه مربوبًا مملوكًا له تعالى.وأما الثانية والثالثة فلأن اتصافَه تعالى بهما ليس إلا بالنسبة إلى ما سواه من العالمين وذلك يستدعي أن يكون الكلُّ منعمًا عليهم، فظهر أن كل واحدةٍ من تلك الصفات كما دلت على وجوب ثبوتِ الأمورِ المذكورةِ له تعالى دلت على امتناع ثبوتِها لما عداه على الإطلاق، وهو المعنى بالاختصاص. اهـ.
والمتواتر منها قراءة {مالك} و{ملك} فهما نيرا سواريها وقطبا فلك دراريها، واختلف في الأبلغ منهما قال الزمخشري: و{ملك} هو الاختيار لأنه قراءة أهل الحرمين ولقوله تعالى: {لّمَنِ الملك} [غافر: 16] ولقوله تعالى: {مَلِكِ الناس} [الناس: 2] ولأن الملك يعم والملك يخص ورجحه صاحب الكشف أيضًا بأنه يلزم على قراءة {مالك} نوع تكرار لأن الرب بمعناه أيضًا وبأنه تعالى وصف ذاته المتعالية بالملكية عند المبالغة في قوله: {مالك الملك} [آل عمران: 6 2] بالضم دون المالكية.واعترض ذلك كله، أما أولًا: فلأن قراءة أهل الحرمين لا تدل على الرجحان لأنه لو سلم كون أوائلهم أعلم بالقرآن لا نسلم ذلك في عهد القراء المشهورين ألا ترى أن صحيح البخاري مقدم على موطأ مالك وهو عالم المدينة على أن القراءات المشهورة كلها متواترة وبعد التواتر المفيد للقطع لا يلتفت إلى أصول الرواة، وقول الشهاب: لا يخفى أن أهل الحرمين قديمًا وحديثًا أعلم بالقرآن والأحكام فمن وراء المنع أيضًا ودون إثباته التعب الكثير كما لا يخفى على من لم ترعه القعاقع.وأما ثانيًا: فلأن الاستدلال بقوله تعالى: {لّمَنِ الملك اليوم} [غافر: 16] يخدشه قوله: {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْس لِنَفْسٍ شَيْئًا} [الإنفطار: 19] فإنه سبحانه أراد باليوم يوم القيامة وهو يوم الدين ونفي المالكية عن غيره يقتضي إثباتها له إذ السياق لبيان عظمته تعالى والأمر آخر الآية واحد الأمور لا الأوامر وإن كثر استعماله فيه.وأما ثالثًا: فلأن ما في الناس مغاير لما هنا لأن {مالك الناس} لو كان هناك كما قرئ به شذوذًا يتكرر مع رب الناس وأما هنا فلا تكرار لاختلاف المقام.وأما رابعًا: فلأن ما ادعاه من أن الملك بضم الميم يعم والملك بالكسر يخص خلاف الظاهر والظاهر أن بين المالك والملك عمومًا وخصوصًا من وجه لغة عرفًا فيوسف الصديق عليه السلام بناء على أنه مالك رقاب المصريين في القحط بمقتضى شرعهم ملك ومالك التاجر مالك غير ملك والسلطان على بلد لا ملك له فيها ملك غير مالك.وأما خامسًا: فبأن التكرار الذي زعمه صاحب الكشف قد كشف أمره على أنه مشترك الإلزام إذ الجوهري ذكر أن الرب كان يطلق على الملك.أما سادسها: فلأن الدليل الأخير الذي ساقه لك أن تقلبه بأنه تعالى وصف ذاته بالمالكية دون الملكية وأيضًا إضافة المالك إلى الملك تدل على أن المالك أبلغ من الملك لأن الملك بالضم قد جعل تحت حيطة المالكية فكأنه أحد مملوكاته كذا قالوه ولهم ما كسبوا وعليهم ما اكتسبوا، وعندي لا ثمرة للخلاف والقراءتان فرسا رهان ولا فرق بين المالك والملك صفتين لله تعالى كما قاله السمين ولا التفات إلى من قال إنهما كحاذر وحذر ومتى أردت ترجيح أحد الوصفين تعارضت لديّ الأدلة وسدت على الباب الآثار وانقلب إليّ بصر البصيرة خاسئًا وهو حسير إلا أني اقرأ كالكسائي {مالك} لأحظى بزيادة عشر حسنات ولأن فيه إشارة واضحة إلى الفضل الكبير والرحمة الواسعة والطمع بالمالك من حيث إنه مالك فوق الطمع بالملك من حيث إنه ملك فأقصى ما يرجى من الملك أن ينجو الإنسان منه رأسًا برأس ومن المالك يرجى ما هو فوق ذلك فالقراءة به أرفق بالمذنبين مثلي وأنسب بما قبله وإضافته إلى يوم الدين بهذا المعنى ليكسر حرارته فإن سماع: {يَوْمِ الدين} يقلقل أفئدة السامعين وبشبه ذلك من وجه قوله تعالى: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة: 3 4] والمدار على الرحمة لاسيما والأمر جدير والترغيب فيه أرغب على أنه لا يخلو الحال عن ترهيب وكأني بك تعارض هذه النكت وما عليّ فهذا الذي دعاني إليه حسن الظن.واليوم: في العرف عبارة عما بين طلوع الشمس وغروبها من الزمان وفي الشرع عند أهل السنة ما عدا الأعمش عبارة عما بين طلوع الفجر الثاني وغروب الشمس ويطلق على مطلق الوقت.
|